فصل: تفسير الآيات (104- 108):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (104- 108):

{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)}
ولما كان علم ما يأتي أخفى من علم ما سبق، أتى فيه بمظهر العظمة فقال: {نحن أعلم} من كل أحد {بما يقولون} أي في ذلك اليوم {إذ يقول أمثلهم طريقة} في الدنيا فيما يحسبون، أي أقربهم إلى أن تكون طريقته مثل ما يطلب منه: {إن} أي ما {لبثتم} ودل على أن المعدود المحذوف من الأول الأيام بقوله: {إلا يوماً} أي مبدأ الآحاد، لا مبدأ العقود كما قال في الاية الأخرى {قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم} [المؤمنون: 113] {يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون} [الروم: 55] فلا يزالون في إفك وصرف عن الحق في الدارين، لأن الإنسان يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه، ويجوز أن يكون المراد أن من قال: إن لبثهم يوم واحد، أمثلهم في نفس الأمر، لأن الزمان وإن طال إنما هو يوم متكرر، ليس مراداً لنفسه، وإنما هو مراد لما يكون فيه فإن كان خيراً كان صاحبه محموداً ولم يضره قصره، وإن كان شراً كان مذموماً ولم ينفعه طوله، ويجوز أن يكون أنث أولاً إرادة لليالي، لأنها محل الراحة المقصودة بالذات، فكان كأنهم قالوا: لم يكن لنا راحة إلا بزمن يسير جداً أكثر أول العقود، ونص الأمثل على اليوم الذي يكون الكد فيه للراحة في الليل إشارة إلى أنهم ما كان لهم في اللبث في الدنيا راحة أصلاً، ولم يكن سعيهم إلا نكداً كله كما يكون السعي في يوم لا ليلة يستراح فيها. وإن كانت فيه راحة فهي ضمنية لا أصلية.
ولما أخبر عن بعض ما سبق ثم عن بعض ما يأتي من أحوال المعرضين عن هذا الذكر فيما ينتجه لهم إعراضهم عنه، وختم ذلك باستقصارهم مدة لبثم في هذه الدار، أخبر عن بعض أحوالهم في الإعراض فقال: {ويسألونك عن الجبال} ما يكون حالها يوم يتفخ في الصور؟ شكا منهم في البعث وقوفاً مع الوهم في أنها تكون موجودة على قياس جمودهم لا محالة، لأنها أشد الأشياء قوة، وأطولها لبثاً، وأبعدها مكثاً، فتمنع بعض الناس من سماع النفخ في الصور، وتخيل للبعض بحكم رجع الهواء الحامل للصوت أنه آتٍ من غير جهته فلا يستقيم القصد إلى الداعي {فقل} أي فتسبب عن علمنا بأنهم يسألونك هذا السؤال أنا نقول لك: قل، أو يكون على تقدير شرط، أي فإذا سألوك فقل لهم، وهذا بخلاف ما نزل بعد وقوع السؤال عنه مثل الروح وقصة ذي القرنين فإن الأمر بجوابه على طريق الاستئناف لما هناك من استشراف النفس للجواب {ينسفها} أي يقلعها من أماكنها ويذريها بالهواء {ربي} المحسن إليّ بنصري في يوم القيامة نصراً لا يبلغ كنهه {نسفاً} عند النفخة الأولى {فيذرها} أي أماكنها {قاعاً} أي أرضاً ملساء {صفصفاً} أي مستوياً كأنه صف واحد لا اثر للجبال فيه {لا ترى} أي بالبصر ولا بالبصيرة {فيها} أي مواضع الجبال {عوجاً} بوجه من الوجوه، وعبر هنا بالكسر هو للمعاني، ولم يعبر بالفتح الذي يوصف به الأعيان، ومواضع الجبال أعيان لا معاني، نفياً للاعوجاج على أبلغ وجه، بمعنى أنك لو جمعت أهل الخبرة بتسوية الأراضي لا تفقوا على الحكم باستوائها، ثم لو جمعت أهل الهندسة فحكموا مقاييسهم العلمية فيها لحكموا بمثل ذلك {ولا أمتاً} أي شيئاً مرتفعاً كالكدية أو نتوّاً يسيراً أو شقاً أو اختلافاً؛ وقال البيضاوي والزمخشري: الأمت النتوّ اليسير، قال الغزالي في الدرة الفاخرة: ينفخ في الصور فتطاير الجبال، وتفجر الأنهار بعضها في بعض، فيمتلئ عالم الهواء ماء، وتنتثر الكواكب وتتغير السماء والأرض، ويموت العالمون فتخلو الأرض والسماء؛ قال: ثم يكشف سبحانه عن بيت في سقر فيخرج لهيب النار فيشتعل في البحور فتنشف، ويدع الأرض جمرة سوداء، والسماوات كأنها عكر الزيت والنحاس المذاب، ثم يفتح تعالى خزانة من خزائن العرش فيها بحر الحياة، فيمطر به الأرض، وهو كمنيّ الرجال فتنبت الأجسام على هيئتها، الصبى صبي، والشيخ شيخ، وما بينهما، ثم تهب من تحت العرش نار لطيفة فتبرز الأرض ليس فيها جبل ولا عوج ولا أمت، ثم يحيى الله إسرافيل فينفخ في الصور من صخرة القدس، فتخرج الأرواح من ثقب في الصور بعددها كل روح إلى جسدها حتى الوحش والطير فإذا هم بالساهرة.
ولما أخبر سبحانه بنزول ما يكون منه العوج في الصوت قال: {يومئذ} أي إذ ينفخ في الصور فتنسف الجبال {يتبعون} أي أهل المحشر بغاية جهدهم {الداعي} أي بالنفخ منتصبين إليه على الاستقامة {لا عوج له} أي الداعي في شيء من قصدهم إليه، لأنه ليس في الأرض ما يحوجهم إلى التعريج ولا يمنع الصوت من النفوذ على السواء؛ وقال أبو حيان: أي لا عوج لدعائه، بل يسمع جميعهم فلا يميل إلى ناس دون ناس.
ولما أخبر بخشوعهم في الحديث والانقياد للدعوة، أخبر بخشوع غير ذلك من الأصوات التي جرت العادة بكونها عن الاجتماع فقال: {وخشعت الأصوات} أي ارتخت وخفيت وخفضت وتطامنت لخشوع أهلها {للرحمن} أي الذي عمت نعمه، فيرجى كرمه، ويخشى نقمه {فلا} أي فيتسبب عن رخاوتها أنك {تسمع إلا همساً} أخفى ما يكون من الأصوات، وقيل: أخفى شيء من أصوات الأقدام.

.تفسير الآيات (109- 112):

{يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)}
ولما تقرر ما للأصوات من الانخفات، وكان قد أشير فيما مضى إلى وقوع الشفاعة من بعض أخصائه بإذنه، وكان الحشر للحساب بمعرض التقريب لبعض والتبعيد لبعض، وكانت العادة جارية بأن المقرب يشفع للمبعد، لما بين أهل الجمع من الوصل والأسباب المقتضية لذلك، وكان الكفار يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم قال نافياً لأن تقع شفاعة بغير إذنه، معظماً ذلك اليوم بالإنذار منه مرة بعد مرة: {يومئذ} أي إذ كان ما تقدم {لا تنفع الشفاعة} أي لا تكون شفاعة ليكون لها نفع، لأنه قد ثبت بما مضى أنه لا صوت، وتقرر في تحقيق المحصورات من علم الميزان أن السالبة الحقيقية لا تستدعي وجود الموضوع في الخارج، وإنما حول العبارة لأن المقصود بالذات النفع، فنفيه بادئ بدا أفظع، وقرع السمع به أولاً أهول وأفزع {إلا} أي إلا شفاعة {من أذن له الرحمن} العام النعمة {ورضي له قولاً} ولو الإيمان المجرد.
ولما نفي أن تقع الشفاعة بغير إذنه، علل ذلك- كما سلف في آية الكرسي- بقوله: {يعلم ما بين أيديهم} أي الخلائق وهو كل ما يعلمونه {وما خلفهم} وهو كل ما غاب عنهم علمه، أي علمه سبحانه محيط بهم، فهو يمنع قلوبهم في ذلك اليوم بما يوجد من الأسباب أن تهم بما لا يرضاه {ولا يحيطون به علماً} ليحترزوا عما يقدره عليهم، و{علماً} تمييز منقول من الفاعل، أي ولا يحيط علمهم به- قال أبو حيان. والأقرب عندي كونه منقولاً عن المفعول الذي تعدى إليه الفعل بحرف الجر، أي ولا يحيطون بعلمه، فيكون ذلك أقرب إلى ما في آية الكرسي. ولما ذكر خشوع الأصوات، أتبعه خضوع دونها فقال: {وعنت الوجوه} أي ذلت وخضعت واستسلمت وجوه الخلائق كلهم، وخصها لشرفها ولأنها أول ما يظهر فيه الذل {للحي} الذي هو مطلع على الدقائق والجلائل، وكل ما سواه جماد حيث ما نسبت حياته إلى حياته {القيوم} الذي لا يغفل عن التدبير ومجازاة كل نفس بما كسبت {وقد خاب} أي خسر خسارة ظاهرة {من حمل} منهم أو من غيرهم {ظلماً}.
ولما ذكر الظالم، أتبعه الحكيم فقال: {ومن يعمل} ولما كان الإنسان محل العجز وإن اجتهد، قال {من الصالحات} أي التي أمره الله بها بحسب استطاعته، لأنه لن يقدر الله أحد حق قدره «ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه» {وهو مؤمن} ليكون بناؤها على الأساس، وعبر بالفاء إشارة إلى قبول الأعمال وجعلها سبباً لذلك الحال فقال: {فلا يخاف ظلماً} بأن ينسب إليه سوء لم يقترفه لأن الجزاء من جنس العمل، وقراءة ابن كثير بلفظ النهي محققة للمبالغة في النفي {ولا هضماً} أي نقصاً من جزائه وإن كان هو لم يوف المقام حقه لأنه لا يستطيع ذلك، وأصل الهضم الكسر، وأما غير المؤمن فلو عمل أمثال الجبال من الأعمال لم يكن لها وزر.

.تفسير الآيات (113- 115):

{وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)}
ولما اشتملت هذه الآية على الذروة من حسن المعاني، فبشرت ويسرت، وأنذرت وحذرت، وبينت الخفايا، وأظهرت الخبايا، مع ما لها من جلالة السبك وبراعة النظم، كان كأنه قيل تنبيهاً على جلالتها: أنزلناها على هذا المنوال العزيز المثال {وكذلك} أي ومثل هذا الإنزال {أنزلناه} أي هذا الذكر كله بعظمتنا {قرآناً} جامعاً لجميع المعاني المقصودة {عربياً} مبيناً لما أودع فيه لكل من له ذوق في أساليب العرب.
ولما كان أكثر هذه الآيات محذراً، قال: {وصرفنا} أي بما لنا من العظمة {فيه من الوعيد} أي ذكرناه مكررين له محولاً في أساليب مختلفة، وأفانين متنوعة مؤتلفة.
ولما ذكر الوعيد، أتبعه ثمرته فقال: {لعلهم يتقون} أي ليكون الناظر لهم بعد ذلك على رجاء من أن يتقوا ويكونوا به في عداد من يجدد التقوى كل حين، بأن تكون له وصفاً مستمراً، وهي الحذر الحامل على اتخاذ الوقاية مما يحذر {أو} في عداد من {يحدث} أي يجدد هذا التصريف {لهم ذكراً} أي ما يستحق أن يذكر من طرق الخير، فيكون سبباً للخوف الحامل على التقوى، فيردهم عن بعض ما تدعو إليه النفوس من النقائض والبؤس.
ولما بلغت هذه الجمل نهاية الإعجاز، فاشتملت على غاية الحكمة، دالة على أن لقائلها تمام العلم والقدرة والعدل في أحوال الدراين، تسبب عن سوقها كذلك أن بان له من العظمة ما أفهمه قوله، معظماً لنفسه الأقدس بما هو له أهل بعد تعظيم كتابه تعليماً لعباده ما يجب له من الحق دالاً بصيغة التفاعل على مزيد العلو: {فتعالى الله} أي بلغ الذي لا يبلغ الواصفون وصفه حق وصفه من العلو أمراً لاتحتمله العقول، فلا يلحقه شيء من إلحاد الملحدين ووصف المشركين {الملك} الذي لا يعجزه شيء، فلا ملك في الحقيقة غيره {الحق} أي الثابت الملك، فلا زوال لكونه ملكاً في زمن ما؛ ولعظمة ملكه وحقية ذاته وصفاته صرف خلقه على ما هم عليه من الأمور المتباينة.
ولما كانت هذه الآيات في ذم من أعرض عن هذا الذكر، كان تقدير: فلا تعرض عنه، بل أقبل عليه لتكون من المتقين الذاكرين، ولما كان هذا الحث العظيم ربما اقتضى للمسابق في التقوى المبالغة في المبادرة إليه فيستعجل بتلقفه قبل الفراغ من إيحائه، قال عاطفاً على هذا المقدر: {ولا تعجل بالقرآن} أي بتلاوته.
ولما كان النهي عاماً لجميع الأوقات القبلية، دل عليه بالجار لئلا يظن أنه خاص بما يستغرق زمان القبل جملة واحدة فقال: {من قبل أن} ولما كان النظر هنا إلى فراغ الإيحاء لا إلى موح معين، بنى للمجهول قوله: {يقضى} أي ينهى {إليك وحيه} من الملك النازل إليك من حضرتنا به كما أنا لم نعجل بإنزاله عليك جملة، بل رتلناه لك ترتيلاً، ونزلناه إليك تنزيلاً مفصلاً تفصيلاً، وموصلاً توصيلاً- كما أشرنا إليه أول السورة، فاستمع له ملقياً جميع تأملك إليه ولا تساوقه بالقراءة، فإذا فرغ فاقرأه فإنا نجمعه في قلبك ولا نسقيك بإنسائه وأنت مصغ إليه، ولا بتكليفك للمساوقة بتلاوته {وقل رب} أي المحسن إليّ بإفاضة العلوم عليّ {زدني علماً} أي بتفهيم ما أنزلت إليّ منه وإنزال غيره كما زدتني بإنزاله وتحفيظه، لتتمكن من معرفة الأسباب المفيدة لتبع الخلق لك، فإنه كما تقدم على قدر إحاطة العلم يكون شمول القدرة، وفي هذا دليل على أن التأني في العلم بالتدبر وبإلقاء السمع أنفع من الاستعجال المتعب للبال المكدر للحال، وأعون على الحفظ، فمن وعى شيئاً حق الوعي حفظه غاية الحفظ؛ وروى الترمذي وابن ماجة والبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علماً والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار» أفاده ابن كثير في تفسيره.
ولما قرر سبحانه بقصة موسى عليه السلام ما أشار إليه أول السورة بما هو عليه من الحلم والتأني على عباده، والإمهال لهم فيما هم عليه من النقص بالنسيان للعهود والنقض للمواثيق، وأتبعها ذكر مدح هذا الذكر الذي تأدت إلينا به، وذم من أعرض عنه، وختمه بما عهد إليه صلى الله عليه وسلم في أمره نهياً وأمراً، أتبع ذلك سبحانه قصة آدم عليه السلام تحذيراً من الركون إلى ما يسبب النسيان، وحثاً على رجوع من نسي إلى طاعة الرحمن، وبياناً لأن ذلك الذي قرره من حلمه وإمهاله عادته سبحانه من القدم، وصفته التي كانت ونحن في حيز العدم، وأنه جبل الإنسان على النقص، فلو أخذهم بذنوبهم ما ترك عليها من دابة، فقال عاطفاً على قوله: {وكذلك أنزلناه حكماً عربياً} [الرعد: 37] أو {كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق} مؤكداً لما تقدم فيه وعهد به من أمر القرآن، ومحذراً من الإخلال بذلك ولو على وجه النسيان، ومنجزاً لما وعد به من قص أنباء المتقدمين مما يوافق هذا السياق: {ولقد عهدنا} بما لنا من العظمة {إلى آدم} أبي البشر الذي أطلعناه على كثير منها في النهي عن الأكل من الشجرة {من قبل} أي في زمن من الأزمان الماضية قبل هؤلاء الذين تقدم في هذه السورة ذكر نسيانهم وإعراضهم {فنسي} عهدنا وأكل منها مع علمه من تلك العظمة بما لا ينبغي أن ينسى معه ذلك العهد المؤكد بذلك الجلال، فعددنا عليه وقوعه في ذلك المنهيّ ناسياً ذنباً لعلو رتبته عندنا، فهو من باب «حسنات الأبرار سيئات المقربين» فكيف بما فوق ذلك! {ولم نجد} بالنظر إلى ما لنا من العظمة {له عزماً} أي قصداً صلباً ماضياً وإرادة نافذة لا تردد فيها كإرادات الملائكة عليهم السلام، والمعنى أنه لم يتعلق علمنا بذلك موجوداً، ومع ذلك عفونا عنه ولم نزحزحه عن رتبة الاصطفاء.

.تفسير الآيات (116- 122):

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)}
ولما كان المقصود من السورة- كما سلف- الإعلام بالحلم والأناة والتلطف بالنائي والقدرة على المعرض، ذكر فعله آدم عليه السلام هذه في هذه السورة بلفظ المعصية مع التصريح بأنها على وجه النسيان، وذكر ذلك أولاً مجملاً ثم أتبعه تفصيله ليكون ذلك مذكوراً مرتين، تأكيداً للمعنى المشار إليه، تقريراً وتحذيراً من الوقوع في منهيّ، وإرشاداً لمن غلب عليه طبع النقص إلى المباردة إلى الندم وتعاطي أسباب التوبة ليتوب الله عليه ما فعل بآدم عليه السلام فقال: {وإذ} أي اذكر هذا واذكر حين {قلنا} بما لنا من العظمة، أي اذكر قولنا في ذلك الوقت {للملائكة} أي المجبولين على مضي العزم والتصميم على القصد من غير مانع تردد ولا عائق فتور {اسجدوا لآدم} الذي خلقته بيدي، فلم نأمرهم بذلك إلا بعد أن اصطفيناه ونحن عالمون بما سيقع منه، وأنه لا يقدح في رتبة اصطفائه، فإن الحلم والكرم من صفاتنا، والرحمة من شأننا، فلا تيأس من عودنا بالفضل والرحمة على من بالغ في مقاطعتنا من قومك الذين وصفناهم باللدد {فسجدوا} أي الملائكة {إلا إبليس} الذي نسب الله إلى الجور والإخلال بالحكمة فكفر فأيس من الرحمة وسلب الخير فأصر على إضلال الخلق بالتلبيس، فكأنه قيل: ما كان من حاله في عدم سجوده؟ فقيل: {أبى} أي تكبر على آدم فعصى أمر الله {فقلنا} بسبب ذلك بعد أن حلمنا عنه ولم نعاجله بالعقوبة: {يا آدم إن هذا} الشيطان الذي تكبر عليك {عدو لك} دائماً لأن الكبر الناشئ عن الحسد لا يزول {ولزوجك} لأنها منك {فلا يخرجنكما} أي لا تصغيا إليه بوجه فيخرجكما، ووجه النهي إليه والمراد: هما، تنبيهاً على أن لها من الجلالة ما ينبغي أن تصان عن أن يتوجه إليها نهي، وأسند الإخراج إليه لزيادة التحذير والإبلاغ في التنفير، وزاد في التنبيه بقوله: {من الجنة} أي فإنه لا يقصر في ضركما وإرادة إنزالكما عنها.
ولما نص سبحانه على شركتها له في الإخراج فكان من المعلوم شركتها له في آثاره، وكانت المرأة تابعة للرجل، فكان هو المخصوص في هذه الدار بالكل في الكد والسعي، والذب والرعي، وكان أغلب تعبه في أمر المرأة، أفرد بالتحذير من التعب لذلك وعدّاً لتعبها بالنسبة إلى تعبه عدماً، وتعريفاً بأن أمرها بيده، وهو إن تصلب قادها إلى الخير، وإلا قادته إلى الضير، وعبر عن التعب بالشقاء زيادة في التحذير منه فقال: {فتشقى} أي فتتعب، ولم يرد شقاوة الآخر، لأنه لو أرادها ما دخل الجنة بعد ذلك، لأن الكلام المقدر بعد الفاء خبر، والخبر لا يخلف. ثم علل شقاوته على تقدير الإخراج بوصفها بما لا يوجد في غيرها من الأقطاب التي يدور علها كفاف الإنسان، وهي الشبع والريّ والكسوة والكن.
ذاكراً لها بلفظ النفي لنقائضها ليطرق سمعه بأسماء أصناف الشقوة التي حذره منها ليصير بحيث يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها، فإذا مضت عليه القدرة الباهرة علم أنه لا يغني حذر من قدر، فقال: {إن لك} أي علينا {ألا تجوع فيها} أي يوماً ما {ولا تعرى} فلا يتجرد باطنك ولا ظاهرك {وأنك لا تظمؤا} بالتهاب القلب {فيها ولا تضحى} أي لا يكون بحيث يصيبك حر الشمس، والمعنى أنه لا يصيبك حر في الباطن ولا في الظاهر {فوسوس} أي فتعقب تحذيرنا هذا من غير بعد في الزمان أن وسوس {إليه الشيطان} المحترق المطرود، وهو إبليس، أي ألقى إليه وجه الخفاء بما مكناه من الجري في هذا النوع مجرى الدم، وقذف المعاني في قلبه، وكأنه عبر ب إلى، لأن المقام لبيان سرعة قبول هذا النوع للنقائص وإن أتته من بعد، أو لأنه ما أنهى إليه ذلك إلا بواسطة زوجه، لذلك عدى الفعل عند ذكرهما بالام، وكأنه قيل: ما دس إليه؟ فقيل: {قال يا آدم} ثم ساق له الغش مساق العرض، إبعاداً لنفسه من التهمة والغرض؛ وشوقه إليه أولاً بقوله: {هل أدلك} فإن النفس شديدة الطلب لعلم ما تجهله؛ وثانياً بقوله: {على شجرة الخلد} أي التي من أكل منها خلد، فإن الإنسان أحب شيء في طول البقاء؛ وثالثاً بقوله: {وملك لا يبلى} أي لا يخلق أصلاً، فكأنه قال له بلسان الحال أو القال: نعم، فقال: شجرة الخلد هذه- مشيراً إلى التي نهي عنها- ما بينك وبين الملك الدائم إلا أن تأكل منها.
{فأكلا} أي فتسبب عن قوله وتعقب أن أكل {منها} هو وزوجه، متبعين لقوله ناسيين ما عهد إليهما {فبدت لهما} لما خرقا من ستر النهي وحرمته {سوءاتهما} وقوعاً لما حذرا منه من إخراجهما مما كانا فيه {وطفقا} أي شرعا {يخصفان} أي يخيطان أو يلصقان {عليهما من ورق الجنة} ليسترا عوراتهما {وعصى آدم} وإن كان إنما فعل المنهي نسياناً، لأن عظم مقامه وعلو رتبته يقتضيان له مزيد الاعتناء ودوام المراقبة مع ربط الجأش ويقظة الفكر {ربه} أي المحسن إليه بما لم ينله أحداً من بنيه من تصويره له بيده وإسجاد ملائكته له ومعاداة من عاداه {فغوى} من الغواية وهي الضلال، ولذلك قالوا: المعنى: فضلّ عن طريق السداد، فأخطأ طريق التوصل إلى الخلد بمخالفة أمره، وهو صفيه، لم ينزله عن رتبة الاصطفاء، لأن رحمته واسعة، وحلمه عظيم، وعفوه شامل، فلا يهمنك أمر القوم اللد، فإنا قادرون على أن نقبل بقلوب من شئنا منهم فنجعلهم من أصفى الأصفياء، ونخرج من أصلاب من شئنا منهم من نجعل قلبه معدن الحكمة والعلم.
ولما كان الرضى عنه- مع هذا الفعل الذي أسرع فيه اتباع العدو وعصيان الولي بشيء لا حاجة به إليه- مستبعداً جداً، أثبت ذلك تعالى مشيراً إليه بأداة التراخي فقال: {ثم اجتباه ربه} أي المحسن إليه {فتاب عليه} أي بسبب الاجتباء بالرجوع إلى ما كان عليه من طريق السداد {وهدى} بالحفظ في ذلك كما هو الشأن في أهل الولاية والقرب.